فصل: قصة عافية بن يزيد مع المهدي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: موارد الظمآن لدروس الزمان



.قصة عافية بن يزيد مع المهدي:

تَوَجَّهَ عَافِيَةُ بنُ يَزِيدُ الأَودِي الْقَاضِي إِلى الْمَهْدِي يَوْمًا في وَقْتِ الظَّهِيرة لِمُقَابَلَتِهِ عَلَى عَجَل.
فَلَمَّا أَذِنَ لَهُ إِذَا بِهِ يحمل أوراقَه بَيْنَ يَدَيْهِ وَيَسْأَل المهدي أن يُعْفِيهِ مِن القضاء ويَسْتأذنه في تسليم الأوراق التي في حَوْزَتِهِ إلى من يَأمُر الخليفةُ بتَسلِيمها له.
وَظَنَّ الْخَلِيفَةُ أَنَّ الْقَاضِي عَافِية قَدْ أَقْدَمَ عَلَى طَلَبَ الاسْتِعْفَاءِ مِنْ الْقَضَاءِ لأَنَّ أَحَدِ رِجَالِ حَاشِيَتِهِ وَمَنْ هُمْ مَحْسُوبُونَ عَلَى الْخَلِيفَةِ قَدْ تَطَاوَلَ عَلَيْهِ أَوْ نَالَ مِنْهُ أَوْ أَسَاءَ مُعَامَلَته أَوْ أَبْدَى عدم احْتِرَامٍ لَهُ تَدَخل في شأنٍ مِن شؤون قَضَائِهِ فأضْعَفَ سُلْطَانَه في تَنْفِيذ أحْكَامِهِ وَلشَدَّ مَا كَانَتْ دَهْشَةُ الْخَلِيفَةِ حِينَمَا عَرَفَ أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ.
فَأَحَبَّ الْخَلِيفَةُ أَنْ يَتَعَرَّفَ مِنْ ذَلِكَ السَّبَبَ الْحَقِيِقي الَّذِي دَفَعَ الْقَاضِي إِلى الاسْتِعْفَاءِ عَلَى عَجَلٍ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الَّذِي يَلْجَأُ النَّاسُ فِيهِ إِلى الرَّاحَةِ وَهُوَ وَقْتِ الظَّهِيرَةِ.
وَلَمَّا أَصَرَّ الْخَلِيفَةُ عَلَى طَلَبِ مَعْرِفَةِ السَّبَبِ لَمْ يَجِدَ الْقَاضِي بُدًا مِنْ أَنْ يَرْوي لَهُ مَا جَرَى لَهُ مِمَّا كَانَ سَبَبًا فِي طَلَبِ الإِعْفَاءِ حِرْصًا عَلَى دِينِهِ وَطَهَارَةً لِنَفْسِهِ.
فَقَالَ الْقَاضِي عَافِيَةُ: مُنْذُ شَهْرَيْن وَأَنَا أتَابِعُ الْبَحْثَ فِي إِحْدَى الْقَضَايَا الْمُعْضِلَةِ مُحَاولاً أَنْ أَصِلَ فِيهَا إِلى وَجْهِ الْحَقِّ فَقَدْ تَقَدم إِليّ خَصْمَان مُوسِرَانِ وَجِيهَانِ فِي قَضِيَّةٍ مُعْضِلَةٍ مُشْكِلَةٍ.
وُكُلٌّ مِنْهُمَا يَدَّعِي بَيِّنَةً وَشُهُودًا وَيُدْلي بِحُجَجٍ تَحْتَاجُ إِلى تَأَمُّلٍ وَتَثَبُّتٍ.
ولما لم يَتَبَيَّنْ لِي وَجْهُ الْحَقِّ رَددْتُ الْخُصُومَ رَجَاءً أَنْ يَصْلَحُوا أَوْ يَتَبَيَّنَ لِي وَجْهُ فَصْلٍ بَيْنَهُمَا.
وَأَثْنَاءَ ذَلِكَ وَقَفَ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ مِنْ خَبَرِي عَلَى أَنِّي أحِبُّ الرُّطَبَ السُّكَرِي.
فَعَمَدَ فِي وَقْتِنَا هَذَا وَهُوَ أَوَّلُ وَقْتِ الرُّطَبِ وَجَمَعَ رُطَبًا سُكَّرِيًا لا يَتَهَيَأ فِي هَذَا الوقتِ لأَحدٍ جَمْعُ مِثْلِهِ إِلا لأَمِير الْمُؤْمِنِينَ وَحَقًّا مَا رَأَيْتُ أَحْسَنَ منه.
ثم عَمَدَ إلى بَوَّابِي فَرَشَاهُ جُمْلَةَ دَرَاهِم لِيُدْخِلَ الطَّبَقَ إليَّ عَلَى أَنَّهُ لا يُبَالِي بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ أَقْبَلَ الطَّبَقَ أَوْ أَرُدَّهُ.
فَلَمَّا أَدْخَلَ الطَّبَقَ إِليَّ أَنْكَرْتُ أَمْرَهُ وَطَرَدْتُ بَوَّابِي وَأَمَرْتُ بِرَدِّ الطَّبَقِ فَرَدَّهُ لِسَاعَتِهِ.
فَلَمَّا كَانَ اليومُ تَقَدَّمَ إِليَّ هَذَا الرجلُ مع خَصْمِهِ فَهَالَنِي أَنَّهُمَا لَمْ يَتَسَاوَيَا فِي قَلْبِي وَلا فِي عَيْنِي.
وهذا يا أمير المؤمنين وأنا لَمْ أَقْبَلْ فكيف يكون حَالي لو قَبلْتُ ولا آمَنُ أن يَقَعَ على حِيلَةٍ في دِيني فأهْلِكُ وقد فَسد الناسَ فأقِلْني أَقَالَكَ الله وأعْفِني.
ولم يَسَعِ الخليفةُُ وهو يَستَمعُ إلى ذلك الكلام المنبي عن شِدَّةِ الوَرَعِ والحرص الخالص على نزاهةِ الحكم وبُعْدَ القاضي عن المؤثرات أَيًّا كان نوعُهَا إلا أن يَسْتَجِيبَ لِطَلَبِ القَاضِي النَّقِي النَّبِيل فأعْفَاهُ من القَضَاء.
فَتَأَمل هَذِه القِصَّةِ بدقة. وقارِنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ كَثِيرٍ من قُضَاةِ هذا الزمن يَتَبَيَّنُ لَكَ الفرق العظيمُ والبُونُ الشاسِع نسأل الله العافية.
اللَّهُمَّ أَحْي قُلُوبَنَا وَنَوِّرْهَا بِنُورِ الإِيمَانِ وَزَيِّنْهَا بِمَحَبَّتِكَ وَجَمِّل أَلْسِنَتَنَا بِذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحَسِّنْ أَعْمَالَنَا وَوَفِّقْنَا لِحِفْظِ أَوْقَاتِنَا وَأَحْيينَا حَيَاةً طَيِّبَةً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ وَأَلْحِقْنَا بِعِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
فصل:
وَمِنْ إِعْلانِ عمر بن عبد العزيز الْجَوَائِزِ لَمِنْ يَدُلُّهُ عَلَى الْخَيْرِ أَنَّهُ كَتَبَ إِلى أَهْلِ الْمُوسِمِ: أَمَّا بَعْدُ فَأَيُّمَا رَجُلٍ قَدِمَ عَلَيْنَا فِي رَدِّ مَظْلَمَةٍ أَوْ أَمْرٍ يُصْلِحُ اللهُ بِهِ خَاصًّا أَوْ عَامًا مِنْ أَمْرِ الدِّينِ فَلَهُ مَا بَيْنَ مَائَةِ دِينَار إِلى ثَلاثِمائَةِ دِينَارٍ بِقَدْرٍ مَا يَرِي مِنْ الْحُسْبَةِ وَبُعْدِ السَّفَرِ لَعَلَّ اللهَ يُحْيِي بِهِ حَقًّا أَوْ يُمِيتُ بِهِ بَاطِلاً أَوْ يَفْتَحَ بِهِ مِنْ وَرَائِهِ خَيْرًا وَلَوْلا أَنِّي أُطِيلُ عَلَيْكُم وَأَطْنِبُ فَيَشْغَلُكُمْ ذَلِكَ عَنْ مَنَاسِكَكُمْ لَسَمَّيْتُ أُمُورًا مِنَ الْحَقِّ أَظْهَرَهَا اللهُ وَأُمُورًا مِنَ الْبَاطِلِ أَمَاتَهَا اللهُ وَكَانَ اللهُ هُو الْمُتَوَحِّدُ لَكَمْ فِي ذَلِكَ لا تَجِدُونَ غَيْرَهُ فَإِنَّهُ لَوْ وَكَلَنِي إِلى نَفْسِي لَكُنْتُ كَغَيْرِي وَالسَّلامُ.
وَكَتَبَ مَرَّةً إِلى الْحَسَنِ الْبَصْرِيّ وَمُطَرِّفَ بنِ الشَّخِّيرِ: مِنْ عُمَرَ بنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلى الْحَسَنِ الْبَصْرِيّ وَمُطَرِّفِ بنِ عَبْدِ اللهِ ابنِ الشَّخِّيرِ سَلامُ علَيْكُمَا فَإِنِّي أَحْمَدُ إِلَيْكُمَا اللهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَأَسْأَلهُ أَنْ يُصَلِّي عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِه وَرَسُولِهِ أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أُوصِيكُمَا بِتَقْوَى اللهِ فَإِنَّ مَنْ يَقُولُهَا كَثِيرٌ وَمَنْ يَعْمَلُ بِهَا قَلِيلٌ فَإِذَا أَتَاكُمَا كِتَابِي فَعِظَانِي وَلا تُزَكِّيَانِ وَالسَّلامُ.
فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْحَسَنُ: إِلى عُمَرَ سَلامٌ عَلَيْكَ فَإِنِّي أَحْمَدُ إِلَيْكَ اللهَ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الدُّنْيَا دَارُ مخوفَةٍ أُهْبَطَ إِلَيْهَا آدَمُ عَلَيْهِ السَّلامِ عُقُوبَةً تُهينُ مِنْ أَكْرَمَهَا وَتُكْرِمُ مَنْ أَهَانَهَا وَتُفْقِرُ مَنْ جَمَعَ لَهَا لَها فِي كُلِّ يَوْمٍ قَتِيلٌ فَكُنْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ كَالْمُدَاوِي لِجرْحِهِ وَاصْبِرْ عَلَى شِدَّةِ الدَّوَاءِ لِمَا تَخَافُ مِنْ طُولِ الْبَلاءِ.
وَكَتَبَ إِلَيْهُ مُطَرِّفُ: سَلامٌ عَلَيْكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتِهِ فَإِنِّي أَحْمَدُ إِلَيْكَ اللهَ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ أَمَّا بَعْدُ فَلْيَكُنْ اسْتِئْنَاسُكَ بِاللهِ وَانْقِطَاعُكَ إِلَيْهِ فَإِنَّ قَوْمًا أَنِسُوا بِاللهِ وَانْقَطَعُوا إِلَيْهِ فِي وَحْدَتِهِمْ أَشَدُّ اسْتِئْنَاسًا مِنْهُمْ بِالنَّاسِ فِي كُثْرَةَ ِعدَدِهِمْ، أَماَتوُا مِن الدُّنْيَا مَا خَافُوا أَنْ يُمِيتَ قُلُوبَهُمْ وَتَرَكُوا مِنْهَا مَا عَلِمُوا أَنْ سَيَتْرُكَهُمْ فَأَصْبَحُوا لِمَا سَالَمَ النَّاسُ مِنْهَا أَعْدَاءً جَعَلَنَا اللهُ وَإِيَّاكَ مِنْهُمْ، فَإِنَّهُمْ قَدْ أَصْبَحُوا بِهَا قَلِيلاًً وَالسَّلامُ.
وَقَدِمَتْ امْرَأَةٌ مِن الْعِرَاقِ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ بنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ. فَلَمَّا صَارَتْ إِلى بَابِهِ قَالَتْ: هَلْ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ حَاجِبٌ؟ فَقَالَوا: لا فَادْخُلِي إِنْ شِئْتِ.
فَدَخَلَتْ الْمَرْأَةُ عَلَى زَوْجَةِ عُمَرَ فَاطِمَةَ وَهِيَ جَالِسَةِ فِي بَيْتِهَا وَفِي يَدِهَا قُطْنٌ تَُعَالِجُهُ فَسَلَّمَتْ الْمَرْأَةُ فَرَدَّتْ عَلَيْهَا فَاطِمَةُ السَّلامِ وَقَالَتْ لَهَا: أدْخُلِي.
فَلَمَّا جَلَسَتْ الْمَرْأَةُ رَفَعَتْ بَصَرَهَا فَلَمْ تَرَ فِي الْبَيْتِ شَيْئًا لَهُ باَلٍ وَذُو أَهمِيَّةٍ، فَقَالَتْ: إِنَّمَا جِئْتُ لأَعْمُرَ بَيْتِي مِنْ هَذَا الْبَيْتِ الْخَرَابِ قَالَتْ فَاطِمَةُ: إِنَّمَا خَرَّبَ هَذَا الْبَيْتَ عِمَارَةُ بُيُوتِ أَمْثَالِكِ فَأَقْبَلَ عُمَرُ حَتَّى دَخَلَ الدَّارَ فَسَلَّمَ وَدَخَلَ بَيْتَهُ فَمَالَ إِلى مُصَلّى كَانَ لَهُ فِي الْبَيْتِ يُصَلِّي فِيهِ.
فَسَأَلَ فَاطِمَةُ عَن الْمَرْأَةِ فَقَالَتْ: هِيَ هَذِهِ فَأَخَذَ مِكْتَلاً لَهُ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ عِنَبٍ فَجَعَلَ يَتَخَيَّرُ لَهَا أَحْسَنَهُ يُنَاوِلُهَا إِيَّاهُ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهَا فَقَالَ: مَا حَاجَتُكِ؟
فَقَالَتْ: امْرَأَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ لِي خَمْسُ بَنَاتٍ كُسُلٍ كُسُدٍ فَجِئْتُكَ ابْتَغِي حُسْنَ نَظَرِكَ لَهُنَّ، فَجَعَلَ يَقُولُ: كُسُلٌ، كُسُدَ وَيَبْكِي فَأَخَذَ الدَّوَاةَ وَالْقِرْطَاسَ وَكَتَبَ إِلى وَالي الْعِرَاقِ فَقَالَ: سَمِّي أَكْبَرَهُنَّ فَسَمتها فَفَرَضَ لَهَا فَقَالَتْ الْمَرْأَةُ: الْحَمْدُ للهِ.
ثُمَّ سَأَلَهَا عَنْ اسْمِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ وَالْمَرْأَةُ تَحْمَدُ اللهَ فَفَرَضَ لَهَا فَلَمَّا فَرَضَ لِلأَرْبَعْ اسْتَفَزَّهَا الْفَرَحُ فَدَعَتْ لَهُ فَجَزَتْهُ فَرَفَعَ يَدَهُ وَقَالَ: قَدْ كُنَّا نَفْرِضُ لَهُنَّ حِينَ كُنْتِ تُولِينَ الْحَمْدَ أَهْلَهُ فَمُرِي هَؤُلاءِ الأَرْبَعَ يُفِضْنَ عَلَى هَذِهِ الْخَامِسَةِ.
فَخَرَجَتْ بِالْكِتَابِ حَتَّى أَتَتْ بِهِ الْعِرَاقَ فَدَعَتْهُ إِلى وَالي الْعِرَاقِ فَلَمَّا دَفَعَتْ إِلَيْهِ الْكِتَابَ بَكَى وَاشْتَدَّ بُكَاؤُهُ وَقَالَ: رَحِمَ اللهُ صَاحِبَ هَذَا الْكِتَابِ فَقَالَتْ: أَماَت َ؟ قَالَ: نَعَمْ فَصَاحَتْ وَوَلْوَلَتْ فَقَالَ: لا بَأْسَ عَلَيْكِ مَا كُنْتُ لأَرُدَّ كِتَابَهُ فِي شَيْءٍ فَقَضَى حَاجَتَهَا وَفَرَضَ لِبَنَاتِهَا.
وَأَرْسَلَ عَطَاءُ إِلى فَاطِمَةَ بِنْتَ عَبْدِ الْمَلِكِ أَخْبِرينِي عَنْ عُمَرَ قَالَتَ: أَفْعَلُ. إِنَّ عُمَرَ رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ كَانَ قَدْ فَرَّغَ لِلْمُسْلِمِينَ نَفْسَهُ وَلأُمُورِهِمْ فَكاَنَ إِذَا أَمْسَى وَلَمْ يَفْرُغْ فِيهِ مِنْ حَوَائِجِ يَوْمِهِ وَصَلَ يَوْمِهِ بِلَيْلَتِهِ إِلى أَنْ أَمْسَى مَسَاءً وَقَدْ فَرِغَ حَوَائِجَ يَوْمِهِ فَدَعَا بِسِرَاجِهِ الَّذِي كَانَ مِنْ مَالِهِ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ أَقْعَى وَاضِعًا رَأْسَهُ عَلَى يَدَيْهِ تَسِيلُ دُمُوعُهُ عَلَى خَدَّيْهِ يَشْهَقُ الشَّهْقَةَ يَكَادُ يَنْصَدِعُ قَلْبُهُ لَهَا وَتَخْرُجُ لَهَا نَفْسُهُ حَتَّى إِذَا بِرَقَ الصُّبْحُ أَصْبَحَ صَائِمًا فَدَنَوْتُ مِنْهُ.
فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَلَيْسَ مِنْكَ مَا كَانَ قَالَ: أَجَلْ فَعَلَيْكِ بِشَأْنِكَ وَخَلِّينِي وَشَأْنِي قَالَتْ: فَقُلْتُ إِنِّي أَرْجُو أَنْ أَتَّعِظَ قَالَ: إِذَنْ أُخْبِرُكَ إِنِّي نَظَرْتُ فَوَجَدْتُنِي قَدْ وُلِّيْتُ أَمْرَ هَذِهِ الأُمَّةِ أَسْوَدَهَا وَأَحْمَرَهَا.
ثُمَّ ذَكَرْتُ الْفَقِيرَ الْجَائِعَ وَالْغَرِيبَ الضَّائِعَ وَالأَسِيرَ الْمَقْهُورِ وَذَا الْمَالِ الْقَلِيلِ وَالْعِيَالِ الْكَثِيرِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ فِي أَقَاصِي الْبِلادِ وَأَطْرَافِ الأَرْضِ فَعَلِمْتُ أَنَّ اللهَ سَائِلِي عَنْهُمْ وَأَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَجِيجِي فِيهِمْ فَخِفْتُ أَنْ لا يَقْبَلَ اللهُ مِنِّي مَعْذِرَتِي فِيهِمْ وَلا تَقُومُ لِي مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حُجَّةٌ فَرَحِمْتُ وَاللهِ يَا فَاطِمَةُ نَفْسِي رَحْمَةً دَمَعَتْ لَهَا عَيْنِي وَوَجِعَ لَهَا قَلْبِي فَأَنَّا كُلَّمَا ازْدَدْتُ لَهَا ذِكْرًا ازْدَدْتُ مِنْهَا خَوْفًا فَاتَّعِظِي إِنْ شِئْتِ أَوْ ذَرِي.
وَكَانَ النَّاسُ فِي زَمَنِهِ كَلامُهُمْ وَبَحْثُهُمْ فِي الاعْتِنَاءِ بِكِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَقِيَامِ اللَّيْلِ وَسِيرَةِ الرَّسُولِ وَالصَّحَابَةِ وَالزُّهْدِ وَالْوَرَعِ وَالْبَحْثِ عَنِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالأَرَامِلِ وَالأَيْتَامِ وَالأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنِ الْمُنْكَرِ وَنَحْوَ ذَلِكَ وهَكَذَا النَّاسُ فِي كُلِّ عَصْرٍ تَبَعُ مُلُوكِهِمْ وَقَادِتِهِمْ وَعُلَمَائِهِمْ غَالِبًا.
وَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ حُبُّ الْعَدَالَةِ وَالإِنْصَافِ رَكِيزَةٌ فِي نَفْسِهِ وَمِنْ لُطْفِ اللهِ بِهِ أَنْ وَهَبَ لَهُ ابْنُهُ عَبْدِ الْمَلِكِ وَكَانَ أُعْجُوبَةَ التَّارِيخ، كَانَ نَاشِئًا لَمْ يُجَاوِزْ عِشْرِينَ عَامًا، وَلَكِنَّهُ مِنْ تَوْفِيقِ اللهِ لَهُ أَنَّهُ مُنْذُ صِغَرِهِ قَوِيُّ الإِيمَانِ وَرَعًا زَاهِدًا، يَقْتَحِمُ عَلَى أَبِيهِ فِي مَجْلِسِهِ وَنَادِيهِ وَمَخْدَعِ نَوْمِهِ وَقَيْلُولَتِهِ يَحُثُّهُ وَيَعِظُهُ وَيَذكُرُهُ بِاللهِ وَيُوقظه وَينهيه إلا يؤخر مظلمةً الناس مخافة أن يَحْمَّ الأَجَلُ فَتَسُوءُ الْمَغَبَّةُ وَتَلْتَهِبُ عَلَى أَبِيهِ النَّارُ.
وَكَانَ كُلَّمَا دَخَلَ عُمَرُ فِي الأُمُورِ عَلَى بَيِّنَةٍ اقْتَحَمَهَا عَبْدُ الْمَلِكِ قَوِيًّا مُسْتَعْجِلاً وَقَدْ أَثَّرَ عَلَى أَبِيهِ وَزَادَ فِي وَرَعِهِ وَتَنْجِيزِهِ لِلأُمُورِ وَدَخَلَ عَبْدُ الْمَلِكِ يَوْمًا عَلَى أَبِيهِ وَكَانَ عِنْدَهُ عَمُّهُ مَسْلَمَةُ فَطَلَبَ إِلى أَبِيهِ أَنْ يُخْلِيهِ بِهِ فَقَالَ: أَسِرٌّ دُونَ عَمِّكَ؟ قَالَ: نَعَمْ فَقَامَ مَسْلَمَةُ وَجَلَسَ عَبْدُ الْمَلِكِ بَيْنَ يَدَيْ أَبِيهِ فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا أَنْتَ قَائِلٌ لِرَبِّكَ غَدًا إِذَا سَأَلَكَ فَقَالَ: رَأَيْتَ بِدْعَةً لَمْ تُمِتْهَا أَوْ سُنَّةً لَمْ تُحْيِهَا فَقَالَ عُمَرُ: يَا بُنَيَّ أَشَيْءٌ حَمَلَكَ أَمْ رَأْيٌ رأَيْتَهُ قَالَ: لا وَاللهِ وَلَكِنْ رَأْيٌ رَأَيْتُهُ مِنْ نَفْسِي عَرَفْتُ أَنَّكَ مَسْؤُلٌ فَمَا أَنْتَ قَائِلٌ.
قَالَ أَبُوهُ: يَرْحَمُكَ اللهُ يَا بُنَيّ وَيَجْزِيكَ مِنْ وَلَدٍ خَيْرًا فَوَاللهِ إِنِّي لأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِن الأَعْوَانِ عَلَى الْخَيْرِ يَا بُنَيَّ إِنَّ قَوْمَكَ شَدُّوا هَذَا الأَمْرَ عُقْدَةً وَعُرْوَةً وَمَتَى مَا أُرِيدَ مُكَابَرَتَهُمْ عَلَى انْتِزَاعِ مَا فِي أَيْدِيهمْ لَمْ آمَنْ أَنْ يَفْتِقُوا عَلَيَّ فَتْقًا تَكْثُر فِيهِ الدِّمَاءُ وَاللهِ لِزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَيَّ مِنْ أَنْ يُهْرَاق فِي سَبَبِي مِحْجَمَةٌ مِنْ دَمْ أَوْ مَا تَرْضَى أَلا يَأْتِي عَلَى أَبِيكَ يَوْمٌ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا إِلا وَهُوَ يُمِيتُ فِيهِ بِدْعَةً وَيُحْيِي فِيهِ سُنَّةً حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرَ الْحَاكِمِينَ.
وَلَمْ يَزَلْ عَبْدُ الْمَلِكِ بِأَبِيهِ حَتَّى صَارَ لا يُبْرِمُ أَمْرًا فِي الْمَظَالِمِ دُونَ رَأْيِهِ قَالَ مَيْمُونُ بنُ مَهْرَانْ: بَعَثَ إِلَيَّ عُمَرُ بنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَإِلى مَكْحُول وَإِلى أَبِي قِلابَةَ فَقَالَ: مَا تَرَوْنَ فِي هَذِهِ الأَمْوَالِ الَّتِي أُخِذَتْ مِنَ النَّاسِ ظُلْمًا فَقَالَ مَكْحُول يَوْمَئِذٍ قَوْلاً ضَعِيفًا كَرِهَهُ عُمَر قَالَ: أَرَى أَنْ تُسْتَأْنَف فَنَظَرَ عُمَرُ إِلَيَّ كَالْمُسْتَغِيثِ بِي فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ابعْثَ ْإلى ابْنِكَ عَبْدِ الْمَلِكِ فَأَحْضِرْهُ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِدُونِ مَنْ رَأَيْت.
وَكَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ قَدْ تَفَقَّهَ وَدَرَسَ حَتَّى صَارَ فِي الصَّفِّ الأَوَّلِ مِنْ فُقَهَاءِ الشَّامِ ثُمَّ زَهِدَ قَالَ مَيْمُون: فَقَالَ عُمَرُ: يَا حَارِثُ ادْعُ لِي عَبْدُ الْمَلِكِ فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ لَهُ: يَا عَبْدَ الْمَلِكِ مَا تَرَى فِي هَذِهِ الأَمْوَال الَّتِي أُخِذَتْ مِنَ النَّاسِ ظُلْمًا وَقَدْ حَضَرُوا يَطْلُبُونَهَا وَقَدْ عَرَفْنَا مَوَاضِعَهَا قَالَ: أَرَى أَنْ تَرُدَّهَا فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ كُنْتَ شَرِيكًا لِمَنْ أَخَذَهَا.
تَسْمَعُ حِكَايَاتٍ يُطِيبُ سَمَاعُهَا ** وَيَحْلُو كَطَعْمِ الشَّهْدِ فِي ثَغْرِ ذَائِقِ

فَكَمْ مِنْ شَوَاجٍ لِلْقُلُوبِ رَقَائِقٍ ** وَكَمْ مِنْ مَعَانٍ لِلْعُوُم ِحقَاَئِق

وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا أَنَّ عُمَرَ بنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَمَّا كَانَ فِي يَوْمِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ قَالَ: أَجْلِسُونِي. فَأَجْلَسُوهُ فَقَالَ: أَنَا الَّذِي أَمَرْتَنِي فَقَصَّرْت وَنَهَيْتَنِي فَعَصَيْتُ وَلَكِنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ ثَمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَأَحَدَّ النَّظَرَ فَقَالَوا: إِنَّكَ لَتَنْظُرُ نَظَرًا شَدِيدًا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: إِنِّي لأَرَى حَضْرَةً مَا هُمْ بِإِنْسٍ وَلا جِنٍّ ثُمَّ قُبِضَ. وَقَالَ مَسْلَمَةَ بن عَبْدِ الْمَلِكَ: لَمَّا احْتُضِرَ عُمَرُ بنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ كُنَّا عِنْدَهُ فِي قُبَّةٍ فَأَوْمَأَ إِلَيْنَا أَنِ أُخْرُجُوا فَخَرَجْنَا حَوْلَ الْقُبَّةِ وَبَقِيَ عِنْدَهُ وَصِيفٌ فَسَمِعْنَاهُ يَقْرَأَ هَذِهِ الآية: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} مَا أَنْتُمْ بِإِنْسٍ وَلا جِنٍّ ثُمَّ خَرَجَ الْوَصِيفُ فَأَوْمَأَ إِلَيْنَا أَنِ ادْخُلُوا فَإِذَا هُوَ قَدْ قُبِض.
شَمِّر عَسَى أَنْ ينْفَعَ التَّشْمِيرُ ** وَانْظُرْ بِفِكْرَكَ مَا إِلَيْهِ تَصِيرُ

طَوَّلْتَ آمَالاً تَكَنَّفَهَا الْهَوَى ** وَنَسِيتُ أَنَّ الْعُمْرَ مِنْكَ قَصِيرُ

قَدْ أَفْصَحَتْ دُنْيَاكَ عَن غَدَرَاتِهَا ** وَأَتَى مَشِيبُكَ وَالْمَشِيبُ

دَارٌ لَهَوْتَ بِزَهْوِهَا مُتَمَتِّعًا ** تَرْجُو الْمَقَامَ بِهَا وَأَنْتَ تَسِيرُ

وَاعْلَمْ بَأَنَّكَ رَاحِلٌ عَنْهَا وَلَوْ ** عُمِّرْتَ فِيهَا مَا أَقَامَ ثَبِيرُ

لَيْسَ الْغِنَى فِي الْعَيْشِ إِلا بُلْغَةً ** وَيَسِيرْ مَا يَكْفِيكَ مِنْهُ كَثِيرُ

لا يَشْغَلَنَّكَ عَاجِلٌ عَن آجِلٍ ** أَبَدًا فَمُلْتَمِسُ الْحَقِيرِ حَقِيرُ

وَلَقْدَ تَسَاوَى بَيْنَ أَطْبَاقِ الثَّرَى ** فِي الأَرْضِ مَأْمُورٌ بِهَا وَأَمِيرُ

آخر:
حَانَ الرَّحِيلُ فَوَدِّعِ الدَّارَ الَّتِي ** مَا كَانَ سَاكِنُهَا لَهَا بِمُخَلَّدِ

وَاضْرَعْ إِلى الْمَلِكِ الْجَوَّادِ وَقُلْ لَهُ ** عَبْدٌ بِبَابِ الْجُودِ أَصْبَحَ يَجْتَدِي

لَمْ يَرْضَ إِلا الله مَعْبُودًا وَلا ** دِينًا سِوَى دِينِ النَّبِي مُحَمَّد

قَالَ بَعْضُهُمْ لما حَضَرَتْهُ الْوَفَاة: إِلَهِي وَسَيِّدي وَمَوْلاي قَدْ آنَ الرَّحِيل إِلَيْكَ وَأَزِف الْقُدُومَ عَلَيْكَ وَلا عُذْرَ لِي بَيْنَ يَدَيْكَ غَيْرَ أَنَّكَ الْغَفُورُ وَأَنَا الْعَاصِي وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ وَأَنَا الْجَانِي وَأَنْتَ السَّيدُ وَأَنَا الْعَبْدُ ارْحَمْ.
خُضُوعِي وَزَلَّتِي بَيْنَ يَدَيْكَ فَإِنَّهُ لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِكَ. وَصَلَى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.

.موعظة:

عِبَادَ اللهِ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةِ وَقَرُبَ التَّحَوُّلُ وَالْمَسِير، وَأَزِفَتِ الآزِفَةُ وَلَيْسَ هُنَاكَ حَمِيمٌ وَلا نَصِيرٌ وَكُتِبَتِ الصَّحِيفَةُ فَلا نِسْيَانَ لِقَلِيلٍ وَلا كَثِيرٍ: {وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ}.
تَاللهِ لَقَدْ غَرَّتِ الأَمَانِي أَكْثَرَ خَلْقِ اللهِ فَتَرَكُوا سَبِيلَ الْهُدَى وَأَعْرَضُوا عَنْ دَارِ التَّهانِي وَالْقَرَارِ فَوَقَعُوا فِي شِرْكِ الرَّدَى وَتَمَادُوا عَلَى التَّوَانِي وَظَنُّوا أَنْ يُتْرَكُوا سُدَى وَنَسُوا قَوْلَهُ تَعَالى: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} وَقَوْلُهُ تَعَالى: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} وَقَوْلُهُ تَعَالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَّا يَشْعُرُونَ}.
عِبَادَ اللهِ كَيْفَ حَالُكُمْ إِذَا قُمْتُمْ مِنْ الْقُبُورِ حَيَارَى حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاَ، وَقَدْ عَظُمَتِ الأَهْوَالُ: {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى} وَلَزِمَتِ الصُّحُفُ الأَعْنَاق ثُمَّ رُدُّوا إلى اللهِ مَوْلاهُمْ الْحَقَّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ.
كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا سَمِعْتُمْ قَوْلَ الْجَبَّارِ: {لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ}، {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ}. وَقَوْلُهُ تَعَالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ}.
فَعِنْدَ ذَلِكَ يُؤْخَذُ الْمُجْرِمُونَ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ، وَيُطْرَحُ فِي الْجَحِيمِ مَنْ كَانَ لَهُ عَلَى الْمَعَاصِي جَرَاءَةٌ وَإِقْدَام.
وَيَمْرَحُ بِالنَّعِيمِ مَنْ قَدَّمَ الْخَيْرَاتِ لِدَارِ السَّلامِ وَعَمِلَ بِالْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ وَيَحْظَى بِجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ فَاتَّقُوا الله عِبَادَ اللهِ وَاسْلُكُوا طَرِيقَ الشَّرْعِ الْقَوِيمِ الَّذِي لا اعْوِجَاجَ فِيهِ وَقُومُوا بِأَوَامِرِ الْمَنَّانِ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانَ.
وَاحْذَرُوا أَنْ تَكُونُوا مِمَّنْ غَرَّتْهُمْ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِزَخَارِفَهَا الزَّائِلَة وَزِينَتِهَا الْعَاطِلَة وَأُولَئِكَ هُمْ الَّذِينَ تَنْقُص الأَيَّامُ والليالي آجالهم وَهُمْ لاهُونَ وَتَجْرِي بِهِمْ الأَعْوَامُ إِلى مَرَاقِدِ قُبُورِهِمْ وَهُمْ نَائِمُونَ وَتَتَخَطَّفَهُمْ الْمَنَايَا لاعِبُونَ وَتُنَادِيهُمْ الْعِبَرُ وَالْمَوَاعِظُ وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ وَلا يُبْصِرُونَ وَيَرَوْنَ مَا وَقَعَ بِالأُمَمِ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا نَزَلَ بِآبَائِهِمْ وَلَكِنْ لا يَفْقَهُونَ وَاللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالى أَعْلَمُ بِمَآلِهِمْ وَمَا إِلَيْهِ صَائِرُونَ، إِذَا هُمْ وَصَلُوا إِلى الْغَايَة الْمَفْهُومَةِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالى: {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ}.
يَا غَافِلاً عَمَّا خُلِقْتَ لَهُ انْتَبِهْ ** جَدَّ الرَّحِيلُ وَلَسْتَ بِالْيَقْظَانِ

سَارَ الرِّفَاقُ وَخَلَّفُوكَ مَعَ الأوُلَى ** قَنِعُوا بِذَا الْحَظِّ الخَسِيسِ الْفَانِ

وَرَأَيْتَ أَكْثَرَ مَنْ تَرَى مُتَخَلِّفًا ** فَتَبِعْتَهُمْ وَرَضِيتَ بِالْحِرْمَانِ

لَكِنْ أَتَيْتَ بِخُطَّتِي عَجْزٍ وَجَهْـ ** ـلٍ بَعْدَ ذَا وَصَحِبْتَ كُلَّ أَمَانِ

مَنَّتْكَ نَفْسُكَ بِاللِّحَاقِ مَعَ الْقُعُو ** دِ عَنِ الْمَسِيرِ وَرَاحَةِ الأَبْدَانِ

وَلَسَوْفَ تَعْلَمُ حِينَ يَنْكَشِفُ الْغِطَا ** مَاذَا صَنَعْتَ وَكُنْتَ ذَا إمَكَانِ

آخر:
دُنْيًا مَغَبَّةُ مَنْ أَثرى بِهَا عَدَمٌ ** وَلَذَّةٌ تَنْقَضِي مِنْ بَعْدِهَا نَدَمُ

وَفِي الْمَنُونِ لأَهْلِ الْكتْبِ مُعْتَبَرءٍ ** وَفِي تَزَوُّدِهِمْ مِنْهَا التُّقَى غُنُمُ

وَالْمَرْءُ يَسْعَى لِفَضْلِ الرِّزْقِ مُجْتَهِدًا ** وَمَالِهِ غَيْرُ مَا قَدْ خُطَّ فِي الْقَلَمِ

كَمْ خَاشِعٍ في عُيُونِ النَّاسَ مَنْظِرهُ ** وَالله يَعْلَمُ مِنْهَا غَيْرَ مَا عَلِمُوا

اللَّهُمَّ نَوِّرْ قُلُوبَنَا بِنُورِ الإِيمَانِ وَثَبِّتْهَا عَلى قَوْلِكَ الثَّابِتْ في الحَيَاةِ الدُّنْيَا، وفي الآخِرةِ، وَيَسِّرْنَا لِلْيُسْرَى وَجَنِّبْنَا الْعُسْرَى، وَاجْعَلْنََا هُدَاةً مُهْتَدِين وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَم الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى وَآلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

.فصل: من مواقف معاوية رضي الله عنه:

وَوَقَفَ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَوْمًا عَلَى مَنْبَرِهِ بَعْدَ أَنْ قَطَعَ الْعَطَايَا المالية عَنْ أَفْرَادِ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ: اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا فَقَامَ إِلَيْهِ أَبُو مُسْلِمُ الْخَوْلانِي فَقَالَ: لا سَمْعَ وَلا طَاعَةَ يَا مُعَاوِيَةُ. قَالَ مُعَاوِيَة: وَلِمَ يَا أَبَا مُسْلِم فَقَالَ يا مُعَاوِيَةُ: كَيْفَ تَمْنَعُ الْعَطَا وَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ كَدِّكَ وَلا كَدِّ أَبِيكَ وَلا مِنْ كَدِّ أُمِّكَ.
فَغَضِبَ مُعَاوِيَةُ وَنَزَلَ عَنِ الْمِنْبَرِ وَقَالَ لِلْحَاضِرِينَ: مَكَانَكُمْ. وَغَابَ سَاعَةً عَنْ أَعْيُنِهِمْ ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْهِمْ وَقَدْ اغْتَسَلَ فَقَالَ: إِنَّ أَبَا مُسْلِمْ كَلَّمَنِي بِكَلامٍ أَغْضَبَنِي وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «الْغَضَبُ مِنَ الشَّيْطَانِ وَالشَّيْطَانُ خُلِقَ مِنَ النَّارِ وَإِنَّمَا تُطْفَأُ النَّارُ بِالْمَاءِ فَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَغْتَسِلْ». وَإِنِّي دَخَلْتُ فَاغْتَسَلْتُ وَصَدَقَ أَبُو مُسْلِم إِنَّهُ ليس مِنْ كَدِّي وَلا مِنْ كَدِّ أَبِي فَهَلمُّوا إِلى عَطَائِكُم.
وَبِالتَّالِي فَإِلَيْكَ صِفَةُ الإِمَامِ الْعَادِل: كَتَبَ عُمَرُ بنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لَمَّا وَلِيَ الْخِلافَةَ إِلى الْحَسَنِ الْبَصَرِي لِيُخْبِرَهُ عَنْ صِفَةِ الإِمَامِ الْعَادِل فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْحَسَن اعْلَمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ اللهَ جَعَلَ الإِمَامَ الْعَادِلَ قِوّامَ كُلِّ مَائِلِ وَقَصْدَ كُلِّ جَائِرٍ وَصَلاحَ كُلِّ فَاسِدٍ وَقُوَّةَ كُلِّ ضَعِيف وَنَصَفَةَ كُلِّ مَظْلُوم وَمَفْزَعَ كُلِّ مَلْهُوف وَالإِمَامُ الْعَادِل يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ كَالرَّاعِي الشَّفِيقِ عَلَى إِبْلِهِ الرَّفِيقِ بِهَا الَّذِي يَرْتَادُ لَهَا أَطْيَبَ الْمَرْعَى وَيَذُودُهَا عَنْ مَرَاتِعِ الْهَلَكَةِ وَيَحْمِيهَا عَنِ السِّبَاعِ وَيُكِنُّهَا عَنْ أَذَى الحَرَّ وَالْقَر.
وَالإِمَامُ الْعَادِلُ كَالأَبِ الْحَانِي عَلَى وَلَدِهِ يَسْعَى لَهُمْ صِغَارًا وَيُعَلِّمُهُمْ كِبَارًا يَكْتَسِبُ لَهُمْ فِي حَيَاتِهِ وَيَدّخِرُ لَهُمْ بَعْدَ مَمَاتِهِ.
وَالإِمَامُ الْعَادِلُ كَالأُمِّ الشَّفِيقَةُ الْبَرَّةِ الرَّقِيقَةِ بِوَلَدِهَا َحَمَلَتْهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَرَبَّتْهُ طِفْلاً تَسْهَرُ بِسَهَرِهِ وَتَسْكُنُ بِسُكُونِهِ تُرْضِعُهُ تَارَةً وَتُفْطِمُهُ أُخْرَى وَتَفْرَحُ بِعَافِيَتِهِ وَتَغْتَمُّ بِشِكَايَتِهِ.
وَالإِمَامُ الْعَادِلُ وَصِيُّ الْيَتَامَى وَخَازِنُ الْمَسَاكِين يُرَبِّي صَغِيرَهُمْ وَيَمُونُ كَبِيرَهُمْ وَالإِمَامُ الْعَادِلُ هَوُ الْقَائِمُ بَيْنَ اللهِ وَبَيْنَ عِبَادِهِ يَسْمَعُ كَلامَ اللهِ وَيُسْمِعَهُمْ وَيَنْظُر إِلى اللهِ وَيُرِيهم وَيَنْقَادُ إلى اللهِ وَيَقُودُهُمْ فَلا تَكُنْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فِيمَا مَلَّكَكَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ كَعَبْدٍ ائْتَمَنَهُ سَيِّدُهُ وَاسْتَحْفَظَهُ مَالُهُ وَعِيَالَه فَبَدَّدَ الْمَالَ وَشَرَّدَ الْعِيَالَ فَأَفْقَرَ أَهْلَهُ وَفَرَّقَ مَاله.
وَأَعْلَمْ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ الْحُدُودَ لِيَزْجُرَ بِهَا عَن الْخَبَائِث وَالْفَوَاحِشِ فَكَيْفَ إِذَا أَتَاهَا مِنْ يَلِيهَا وَإِنَّ اللهَ أَنْزَلَ الْقِصَاصَ حَيَاةً لِعِبَادِهِ فَكَيْفَ إِذَا قَتَلَهُمْ مَنْ يَقْتَصُّ لَهُمْ وَاذْكُر الْمَوْتَ وَمَا بَعْدَهُ وَقِلَّةَ أَشْيَاعِكَ عِنْدَهُ وَأَنْصَارَكَ عَلَيْهِ فَتَزَوَّدْ لَهُ وَلِمَا بَعْدَهُ مِنَ الْفَزَعِ الأَكْبَرِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ لَكَ مَنْزِلاً غَيْرَ مَنْزِلِكَ الَّذِي أَنْتَ فِيهِ يَطُولُ فِيهِ ثَواؤُكَ وَيُفَارِقُكَ أَحِبَّاؤُكَ يُسْلِمُونَكَ فِي قَعْرِهِ وَحِيدًا فَرِيدًا فَتَزَوَّدْ لَهُ مَا يَصْحَبُكَ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ وَاذْكُرْ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ وَحُصِّلَ مَا في الصُّدُورِ فَالأَسْرَارُ ظَاهِرَة وَالْكِتَابُ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا.
فَالآنَ وَأَنْتَ في مَهْلٍ قَبْلَ حُلُولِ الأَجَل وَانْقِطَاعِ الأَمَلِ لا تَحْكُمُ فِي عِبَادِ اللهِ بِحُكْمِ الْجَاهِلِينَ وَلا تَسْلُكَ بِهِمْ سَبِيلَ الظَّالِمِينَ وَلا تُسَلِّطْ الْمُسْتَكْبِرِينَ عَلَى الْمُسْتَضِعِفينَ فَإِنَّهُمْ لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلا وَلا ذِمَّةً فَتَبُوءَ بِأَوْزَارِكَ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكَ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالَكَ.
وَلا يَغُرَّنَّكَ الَّذِينَ يَتَنَعَّمُونَ فِي بُؤْسِكَ وَيَأْكُلُونَ الطَّيِّبَاتِ في دُنْيَاهُمْ بِإِذْهَابِ طَيِّبَاتِكَ في آخِرَتِكَ وَلا تَنْظُرْ إِلى قُدْرَتِكَ الْيَوْمَ وَلَكِنْ انْظُرْ إِلى قُدْرَتِكَ غَداً وَأَنْتَ مَأْسُورٌ فِي حَبَائِلِ الْمَوْتِ وَمَوْقُوفٌ بَيْنَ يَدَي اللهِ في مَجْمَعٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ وَقَدْ عَنِتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ الَّذِي لا تَأْخُذُهُ سِنَةُ وَلا نَوْم.
سَلِ الْمَنَايَا عَلَى عِلْمٍ وَتَجْرُبَةِ ** في أيَ شَيْءٍ بَغَى الإِنْسَانُ أَوْ حَسَدَا

تَنَافَس النَّاسُ في الدُّنْيَا وَقَدْ عَلِمُوا ** أَنَّ سَوْفَ تَقْتُلَهُم لِذَّاتُهَا بُدَدَا

تَبَادَرُوهَا وَقَدْ آذَتْهُم فَشَلاً ** وَكَاثَرُوهَا وَقَدْ أَفْنَتْهُمُ عَدَدَا

قُلْ لِلْمُحَدِّثِ عَنْ لُقْمَانَ أَوْ لِبَدٍ ** لَمْ يَتْرُكِ الدَّهْرَ لُقْمَانًا وَلا لِبَدَا

وَلَمْ يُغَادِرْ عَمَارَاتٍ وَلا فُلَلاً ** وَلا قُصُورًا بِهَا الْمَغْرُورُ مُسْتَنِدَا

وَلا بَسَاتِينَ فِي الأَشْجَارِ زَاهِيَةً ** وَسَاهِرُ المَاءِ في الأَنْهَارِ مُطَّرِدَا

وَلا جَبَانًا يَخَافَ الْمَوْتَ ذَا قَلَقٍ ** وَلا شُجَاعًا يَهْزِمُ الْجَمْعُ مُنْفَرِدَا

وَلا كَرِيمًا تُبِيدُ الْمَالَ رَاحَتُهُ ** وَلا بَخِيلاً إِذَا اسْتَمْنَحْتَهُ شَرَدَا

اللَّهُمَّ احْفَظْنَا مِن الْمُخَالَفَةِ وَالْعِصْيَانِ وَلا تُؤَاخِذْنَا بِجَرَائِمَنَا وَمَا وَقَعَ مِنَّا مِن الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانِ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينِ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبهِ أَجْمَعِينَ.
فصل:
كتب سفيانَ الثوريّ إلى أخٍ له في الله يقول له: أما بعدُ: عافانا الله وإيَّاك مِن النَّار برحمتِه، أوصِيكَ وإيَّايَ بَتَقْوَى الله.
وَأحَذِّركَ أن تَجْهَلَ بعد إِذْ عَلِمْتَ، فتهلكَ بعدَ إِذْ أبصرتَ، وتَدَع الطريقَ بعد إذْ وَضَحَ لَكَ، وَتَغْتَرَّ بأهلِ الدنيا بِطَلَبِهم لَهَا، وحِرْصِهِمْ عليها وإكثارِهِم منها.
فَإِنَّ الْهَوْلَ شَدِيدٌ، والطَّرِيقَ بَعِيدٌ، وَالْمنَاقِشَ عَتِيدٌ، وَالخطرَ عَظِيمٌ، وَالوَقتَ قَرِيبٌ، وَكأنْ قَدْ كَانَ.
فَتَفَرّغْ وَفَرِّغْ قَلْبِكَ، ثُمَّ الجدَّ الْجدَّ، والوَحَاءَ الوَحَاءَ، وَالهَرَبَ الهَرَبَ، وَارْتَحِلْ إِلى الآخِرَةِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُرْتَحَلَ بِكَ.
وَاسْتَقْبِلْ رُسُلَ رَبِّكَ، وَاشْدُدْ مِئْزَرَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى قَضَاؤُكَ، وَيُحَالَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ مَا تُرِيد، فَقَدْ وَعَظْتُكَ بِمَا وَعَظْتُ بِهِ نَفْسِي، وَالتَّوْفِيقُ مِن الله.
وَمِفْتَاحُ التَّوفيقِ التَّضرُّعُ والاسْتِكَانَةُ وَالندامةُ عَلَى ما فَرَّطتَ، ولا تُضَيِّعْ حَظَّكَ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ وَاللَّيَالِي الَّتِي هِيَ مَتْجَرُ الزُّهَّاد، وَمَكْسَبُ الْعُبَّادِ.
ثُمَّ إِيَّاَك وَمَا يُفْسِدُ عَلَيْكَ عَمَلَكَ وَهُوَ الرِّيَاءُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ رِيَاءٌ فَإِعْجَابُكَ بِنَفْسِكَ.
وَإِيَّاكَ أَنْ تُحِبُّ مَحَامِدَ النَّاسِ أَوْ تَحِبُّ أَنْ يُكْرِمُوكَ بِعَمَلِكَ.
وَيَرَوْنَ لَكَ فَضِيلَةً وَشَرَفًا وَمَنْزِلَةً فِي صُدُروِهِمْ، أَوْ حَاجَةً تَطْلُبُهَا إِلَيْهِمْ فِي أَمْرٍ مِن الأُمُورِ.
فَإِنَّكَ زَعِمْتَ أَنَّكَ تُرِيدُ بِعَمَلِكَ وَجْهَ اللهِ وَالدَّارِ الآَخِرَةَ وَلا تُرِيدُ بِهِ غيرهَ.
وَعَلَيْكَ بِكَثْرَةِ ذِكْرِ الْمَوْتِ، فَكَفَى بِطُولِ الأَمَلِ قِلَّةُ الخَوْفِ، وجرأةٌ على الْمَعَاصِي، وَكَفى بالْحَسْرَةِ وَالنَّدَامَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَّكَ لَمْ تعلم ولم تَعْمَلْ بِعِلْمِكَ.
وَاطْلب الْعِلْمَ لِتَعْمَل بِهِ، وَلا تَطْلُبْه لِتُبَاهِي بِهِ العُلَمَاء، أو لِتُمَارِي به السُّفَهَاءَ، أَوْ تَأْكُلَ بِهِ الأَغْنِيَاءَ.
أَوْ تَسْتَخْدِمَ بِهِ الْفُقَرَاءَ، أَوْ تَصْرِفَ بِهِ وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيْكَ، فَإِنَّ لَكَ مِنْ عَلمِكَ مَا عَمِلْتَ بِهِ، وَعَلَيْكَ مَا ضَيَّعْتَ مِنْهُ.
فَكُلُّ مَنْ طَلَبَ الْخَيْرَ صَارَ غَرِيبًا فِي زَمَانِهِ، فَلا تَسْتَوْحِشْ وَاسْتَقِمْ عَلى سَبِيلِ رَبِّكَ.
وَاشْتَغِلْ بِذِكْرِ عُيُوبِ نَفْسِكَ عَنْ ذِكْرِ عُيُوبِ غَيْرِكَ، وَاحْزَنْ عَلَى مَا مَضَى مِنْ عُمْرِكَ فِي غَيْرِ طَلَبِ آخِرَتِكَ.
وَأَكْثِرْ مِنَ الْبُكَاءِ عَلَى مَا أَوْقَرْتَ ظَهْرَكَ، لَعَلَّكَ تَخْلُصُ مِنْهَا وَلا تُمْسِكْ عَن الْخَيْرِ وَأَهْلِهِ، وَلا تَتَبَاعَدْ عَنْهُمْ.
وَتَبَاعَدْ مِن الْجُهَّال وَبَاطلِهم مهما استطعت، فإنَّه لا يَنْجو من جاورَهم إلا مَنْ عصمَ الله.
وَقَالَ رحمه الله: وإنْ أَرَدْتَ اللِّحَاقَ بالصالحِين فاعملْ عَملَهُم، واحْذُ سِيرَتَهُم، واكْتَفِ بِمَا رُزِقْتَ مِن الدُّنْيَا.
ولا تَنْسَ مَنْ لا يَنْسَاكَ، وَلا تَغْفَلْ عَمَّنَ وُكِّلَ بِكَ، يُحصِي أَثَرَكَ، وَيَكْتُبُ عَمَلَكَ.
وَرَاقِبِ اللهِ فِي سِرِّكَ وَعَلانِيَّتِكَ، فَهُوَ رَقِيب عَلَيْكَ، وَاسْتَحي مِمَّنْ هُوَ مَعَكَ، وَأَقْرَبُ إِلَيْكَ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ.
وَاعْتَرِفْ بِفَاقَةِ نَفْسِكَ وَارْحمهَا وأكْثِرْ مِن الْبُكَاءِ عَلَيْهَا، وَلا تَغْبطْ أَهْلَ الشَّهَواتِ بِشَوَاتِهِمْ وَلا أَهْلَ النَّعمِ بِنِعَمهم.
فَإِنَّ وَرَاءَهُمْ يَومًا تُزَلْزَلُ فِيهِ الأَقْدَامُ، وَتُرعدُ فِيهِ الأَجْسَامُ، وَتَتَضَاعَفُ فِيهِ الآلامُ، وَتَتَزَايَدُ فِيهِ الأَسْقَامُ.
وَيَطُولُ فِيهِ الْقِيَامُ، وَيَشْتَدُّ فِيهِ الْحِسَابُ، وَيُشْفَقُ فِيهِ العذاب، وَتَطِيرُ فِيهِ الْقُلُوبُ حَتَّى تَبْلُغَ الْحَنَاجِرَ، فَيَا لَهَا مِنْ نَدَامَةٍ عَلى مَا أَصَابُوا مِن هَذِهِ الشَّهَوات.
وَاجْعَلْ كَسْبَكَ فِيمَا يَكُونُ لَكَ ولا تَجْعَلْه فِيمَا يَكُونُ عَلَيْكَ، وَاجْتَنِبْ الْحَرَامَ وَلا تَجْلِسْ مَعَ مَنْ يَكْسِبُه.
وَإِيَّاكَ وَالظُّلْمَ، أَوْ تَكُونَ عَوْنًا لِلظَّالِمِ أَوْ تَصْحَبَهُ أَوْ تُؤاكِلُه، أَوْ تَبَسَّمَ في وَجْهِهِ، أَوْ تَنَالَ مِنْهُ شَيْئًا فَتَكُونَ عَوْنًا لَهُ، واَلْعَوْنُ شَرِيكٌ، وَلا تُخَالِفْ أَهْلَ التَّقْوَى، وَلا تُطِعْ أَهْل الْخَطَايَا.
وَلا تُجَالِسْ أَهْلَ الْمَعَاصِي، وَاجْتَنِبْ الْمَحَارِمَ. وَعَلَيْكَ بِالتَّوْبَةِ، وَجَدِّدْهَا فِي كُلِّ يَوْمٍ، بَلْ فِي كُلِّ سَاعَةٍ، فَإِنَّ لِكُلِّ ذَنْبٍ تَوْبةٌ، وَتَرْكُ الذَّنْبِ أَيْسَرُ مِنْ طَلَبِ التَّوْبَةِ.
وَلا تَتَهَاوَنْ بِالذَّنْبِ الصَّغِيرِ، وَلَكِنْ انْظُرْ مَن عَصَيْتَ، عَصَيْتَ رَبًّا عَظِيمًا، يُعَاقِبُ عَلَى الصَّغِيرُ، وَيَعْفُو عَنِ الْكَبِيرِ إِنْ شَاءَ.
فَإِنَّ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ عليه السلام حَذَّرَ نَفْسَهُ مَعَ قُربِهِ وَخُلَّتِهِ، وَعُلوِّ مَنْزِلَتِهِ، فَسَأَلَ رَبَّهُ فَقَالَ: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ}.
وَقَالَ يُوسف الصِّدِّيقُ عَلَيْهِ السَّلامَ مَعَ عِصْمَتِهِ وَنُبَوَّتِهِ: {تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}.
وَقَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ: {رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ}.
وَقَالَ شُعَيْبٌ عَلَيْهِ السَّلامُ: {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللّهُ رَبُّنَا}.
فَهَؤُلاءِ الأَنْبِيَاءُ الْمُقَرَّبُون الْمُجْتَبَوْن الْمَخْصُوصُونَ بِالنُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ وَعُلوِّ الْمَنْزِلَةِ خَافوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَتَضَرَّعُوا إلى مَالِكِهِمْ.